سم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لازالت صورة القرية فى خيالى بكل شخوصها وأحداثها..حتى نخلاتها النحيلة التى لازالت تقاوم فى ملل تلك العواصف القادمة من جبال الهم والشقاء.....
ولأن القرية هى عشقى الأبدى, لازلت أرى صورة القرية فى كل تجمع بشرى أعيش فيه, سواء بجسدى وأفكارى, أو حتى مجرد منتدى أتواصل فيه مع عقول ومشاعر تتداخل مثل خارطة طريق السفر الطويل فلا أدرى أيها أعوج وأيها معتدل, ولا أدرى أيها وعر ولا أيها سهل بإذن الله...!
حقول القرية تحيط بالبيوت فى حنو فتتعانق النوافذ المشقوقة فى الجدران المنهكة مع جريد النخل الملاصق لها فى إستحياء وخجل.... !
جموع من المزارعين البسطاء ذاهبة إلى حقولها...لكن يستوقفها تلك الجموع المحتشدة عند ذلك الجسر القصير المعلق فوق الترعة الضيقة..
وجوه عليها مسحات من الأسى الزائف.. رجل عجوز وقف يضرب كفا" بكف مقلبا" وجهه فى السماء.. إمرأة ألتفت بسواد من رأسها حتى قدميها تزرف دموع باردة...وجماعة وقفوا بالقرب منهم يتهامسون بينهم وهم يلتفتون فى خوف لربما تقع عين ذلك الرجل الكبير عليهم فيعلم بشماتتهم...
وكان الخطب الجلل...( جرار حمدان إبن سعدية دهست كلب العمدة)!....
وقف العمدة محاطا" برجاله..شاربه منتصب فى تحدى لرجولة كل الواقفين..عيونه تطلق شررا" أحمر يوشك أن يحرق جلودهم التى سلختها شمس الصيف...
(ياويلك يا حمدان..إزاى يتجرأ ويدوس الكلب بتاعى)...
مشهد جنائزى أختلط فيه النفوذ والتسلط بطعم النفاق المر..كان حديث القرية ذلك اليوم (كلب العمدة).....!
تقدم حمدان ومعه نفر من كبار عائلته معتذرين للعمدة عن ذلك الإثم العظيم الذى إرتكبه حمدان..والعمدة جالس بين رجاله يوشك أن يطلق عليهم كلابه الذين أحاطوا به لولا الخوف من ثورة القرية كلها عليه.....
وفود قادمة ووفود تغادر..وبيت العمدة مزدحم برائحة النفاق الكريهة....
ورائحة الذل المرتسم على وجوه نسيت أن الله هو (الرزاق ذو القوة المتين).....!
ومرت الشهور ومات العمدة بعدما سقط مغشيا" عليه وسط القرية....السرادق الذى أقامه أولاده أمتد لأكثر من فدان.....
صوت المقرئ يصدح فى خشوع متصنع(لمن الملك اليوم, لله الواحد القهار)...وأطالع فى الحضور فلا أجد أكثر من عشرون رأسا" تهتز ذات اليمين وذات الشمال وقلوبهم فى فجوة من الأسى والعبرة فى نهاية كل جبار إستعان بالكلاب ليقهر الكرامة فى قلوب أعيتها ضربات الفأس ومنجل الفقر الحاد...!
كما مات عسران أبو أنور..
ذلك الرجل الذى كان عين العمدة فى كل شبر فى القرية, يزرع البغضاء والحقد فى قلب العمدة ضد كل من لايعجبه أو يخالفه الرأى...
مثلما مات عسران...
مات صاحب الكلب وولى نعمته, فلم تنفعه كلابه ولا حقوله المليئه يالظلم والقهر.....!
مات عسران....
مات العمدة....
ولا زال الخوف حى يرزق..
ولا زال النفاق يلهو ويعبث حولنا...هناك...وهنا فى المنتدى...!